الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل: "وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ"
وقال تعالى فيما نقله رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ"
والصلاة والسلام على النبي القائل ": يَدُ الله ملأى ، لا تَغِيضُها نفقةٌ ، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ،أفرأيتم ما أنفقَ منذ خلق السماوات والأرض ؟ فإنَّه لم يَغِضْ ما في يَمينه"
ورضي الله عن شيخنا رزق السيد عبده الحامدي الشاذلي القائل" : العقيدة قوة تنفعل لهاالأشياء".
اللهم فصلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم صلاةً تؤيدُ لنا بها اليقين وتوسعُ بها علينا ما تخلفه ظاهراً وباطناً دنيا وأخرى، وتقوي بها تصديقنا في وعدك، وتقطع بها تعلق قلوبنا بالعطاء من غيرك، حتى لا نشهد عطاءً إلا منك ابتداءً وحقيقةً، وتُقويَ بها عقيدتنا، وتتوب بها علينا من الالتفات إلى الأغيار، ومن صحبة الفجار، وتدركُ بها قلوبنا من آثارِ سمِ صحبة الغافلين ومنهم أنفسنا الغافلة فقد ابتلينا بصحبتها ضرورةً إلى حين، والضرورة تقدر بقدرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم أما بعد...
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد...
فقد شاء المولى تعالى أن التقي بأحد الأساتذة الأجلاء الحاصلين على درجة الدكتوراه في علم التفسير وهو من مكة المكرمة زادها الله شرفاً، وأن يتطرق بنا الحديث إلى معانٍ من تفسير كتاب الله العزيز، وأنه كيف أن السياق له أثر كبير في ترجيح المعنى في التفسير، ومن ذلك ما ذكره لي في قوله تعالى:
"فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى" وأن التفسير الذي يميل إليه هذا الأستاذ الدكتور هو ما جاء عند الكثيرين من المفسرين من أن الحسنى هناهي الخَلَف وهو ما يخلفه الله على المنفق.
ومنذ هذا الوقت وكأن أمر الخَلَف هذا قد شغلني فبدأت في البحث في هذا الأمر، وهو ما انتهى إلى هذه الرسالة اللطيفة التي أسميتها في أول الأمر: "تأييد اليقين للمتذبذب بين الوعدين" إشارة إلى الوعدين المذكورين في قوله تعالى:
"الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "
ثم عدت وسميتها "تصديق الوعد واستمطار سُحُب الفضل" وأسأل من قراءها أن يستمطر لنا من سحب الفضل والجود ما عجزت همتنا وضعف حالنا عن استمطاره فرُبَ حامل فقه وليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وقد أنزلت ضعفي بساحة الكرام ونزيل الكرام لا يُضام.
ولما أخبرت أخي في الله أحمد عرفة بما انتويته من كتابة هذه الوريقات قال لي: ولكن ابدأ بالحقائق وانتهِ بالحقائق، وأعطاني اشارة لطيفة إلى أن مادة "خلف" تدخل فيها الخلاف والخلافة فضلاً عن الخَلَف، ولما كانت الحقائق هي التي تفصح عن نفسها، فقد ابتدأت بما أشار من العودة إلى الأصل من المادة اللغوية.
فنقول وبالله التوفيق إن أمر الانفاق والخلف يدور حول مادتين لغويتين والأصل اللغوي يشير إلى الحقائق إذ العربية لسان الافصاح وعليه فهناك مادتين لهذا الأمر مادة "ن ف ق" ومادة "خ ل ف".
الانفاق لغة:
فاعلم يا مستمطر سُحُب المعاني أن النفقة من فعل "نفق" وله معانٍ ترجع كلها إلى الخروج والفناء منها: النَّفَقة لأنَّها تمضي لوجهها ونفقت الدابة ماتت وأنفق الرجل ذهب ما عنده ومنه اشتقاق النِّفاق، لأن صاحبَه يكتُم خلافَ ما يُظهِر، فكأن الإيمان يَخرُج منه، أو يخرج هو من الإيمانِ في خفاء، وكذلك النفق هو المَسلك النَّافذ الذي يُمكن الخروجُ منه .
و الانفاق هو إخراج المال من الملك
ونفَقَ البيعُ ينْفُقُ نَفاقاً كسَحاب: رَاجَ وكذلك السِّلْعَةُ تنْفُق: إذا غلَت ورُغِبَ فيها ونفَق الدّرْهَمُ نَفاقاً كذلك وهذه عن اللّحياني كأنّه قَلّ فرُغِبَ فيه .
والمقصود أن الإنفاق هو إخراج الشيءمن الملك وخروج التعلق به من القلب فكأنه فنى فإذا صدق المنفق في إنفاقه فإن الباقيصاحب خزائن الملك والجود التي لا تنفد يخلف عليه ويفيض عليه عوضاً عما أنفقه إمامالاً أو حالاً معجلاً أو أجراً مؤجلاً فيروج مال المنفق ويربى، والذي نرى واللهأعلم أن المنفق إذا صدق في نيته في الإنفاق لوجه الله وصدَّق الوعد الإلهي بالإخلافوهو الحسنى فإن الله يخلف عليه ما ذكرنا جميعاً حالاً ومالاً وأجراً لما ورد منقوله تعالى:
"قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَاأَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ"
العلاقة الوثيقة بين الإنفاق والإخلاف:
وهنا يرد علينا أمر الخَلَف المعلق على أمر الإنفاق في قوله تعالى:
"وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ "
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"
فانظر رحمك الله إلى الربط في الآية الشريفة بين قول الله تعالى "أَنْفَقْتُمْ" وقوله "يُخْلِفُهُ" وكذلك في الحديث بين قوله "منفقا" وقوله "خَلَفاً" تجد الارتباط الوثيق بين الانفاق وهو خروج المال من المِلْك وبين الخَلَف من الله للمنفق، وعليه كان لا بد من الرجوع إلى معنى الخَلَف لغة.
وقد أدرك هذا الارتباط الوثيق الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه ففيما أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب كرّمالله وجهه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لكل يوم نحساً ، فادفعوانحس ذلك اليوم بالصدقة ، ثم قال : اقرأوا مواضع الخلف ، فإني سمعت الله يقول { وماأنفقتم من شيء فهو يخلفه } إذا لم تنفقوا كيف يخلف؟ "