الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. وآله وصحبه أجمعين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته...
وننقل لكم هذا السؤال وإجابته من مجموعة ويسألونني لشيخنا العارف بالله رزق السيد عبده الحامدي الشاذلي رحمه الله:
- ويسـألوننى عن المصافحة - ما دليلها وما أسرارها وهل لابد فيها من تبادل تقبيل اليد حيث أننا نرى كثيراً من أهل الطرق يتركون أيديهم للمريدين ليقبلونها دون أن تتم المصافحة.
ونقول بعون الله أن حكم المصافحة باليد أنها سنة مجمع عليها عند التلاقى نص على ذلك الفقيه الصالح العالم الزاهد الإمام أبو زكريا يحيى بن شرف النووى فى كتابه الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار، وبوب أيضاً فى كتابه المشهور رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين (باب استحباب المصافحة عند اللقاء وبشاشة الوجه وتقبيل يد الرجل الصالح...)- الباب، وأورد فيه أحاديثا منها:
عن أبى الخطاب قتادة قال: قلت لأنس: أكانت المصافحة فى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : نعم رواه مسلم.
وعن البراء رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا" رواه أبو داود .
قال الإمام النووى فى كتابه الأذكار:
"واعلم أن هذه المصافحة مستحبة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتى الصبح والعصر، فلا أصل له فى الشرع على هذا الوجه، ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنة، وكونهم حافظوا عليها فى بعض الأحوال، وفرطوا فيها فى كثير من الأحوال أو أكثرها، لايخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التى ورد الشرع بأصلها".
قال: وقد ذكر الشيخ الإمام أبو محمد عبد السلام فى كتابه القواعد أن البدع على خمسة أقسام: واجبة، ومحرمة، ومكروهة، ومستحبة، ومباحة. قال: ومن أمثلة البدع المباحة المصافحة عقب الصبح والعصر، والله أعلم" ثم قال فى موضع آخر: "ويســتحب مع المصافحة، البشاشة بالوجه، والدعاء بالمغفرة وغيرها".
وأما تقبيل اليد فقد ذكر الإمام النووى أيضاً فى كتابه الأذكار فصل فى حكم ذلك قال فيه:
"إذا أراد تقبيل يد غيره، إن كان ذلك لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه وصيانته أو نحو ذلك من الأمور الدينية لم يكره بل يستحب، وإن كان لغناه ودنياه وثروته وشوكته ووجاهته عند أهل الدنيا ونحو ذلك فهو مكروه شديد الكراهة.
قال: وقال المتولى من أصحابنا (يعنى الشافعية): لايجوز، فأشار إلى أنه حرام".
ثم ذكر أحاديثاً فى تقبيل اليد منها:
عن زارع رضى الله عنه، وكان فى وفد عبد القيس قال: "فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد النبى صلى الله عليه وسلم ورجله" رواه أبو داود.
وعن ابن عمر رضى الله عنهما قصة قال فيها: "فدنونا - يعنى من النبى صلى الله عليه وسلم -فقبلنا يده" رواه أبو داود.
وأورد الإمام النووى أيضا فى رياض الصالحين حديثاً فى تقبيل اليد عن صفوان بن عسال رضى الله عنه قال: قال يهودى لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبى، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن تسع آيات بينات، فذكر الحديث إلى قوله: فقبلا يده ورجله، وقالا : نشهد أنك نبى" رواه الترمذى وغيره بأسانيد صحيحة. اهـ.
وقد تكلم الإمام العارف بالله الشيخ صالح بن محمد الجعفرى رحمه الله عن مسألة تقبيل اليد فى كتابه فتح وفيض وفضل من الله فى شرح كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال:
س- أخرج أبو داود فى سننه (أن وفد عبد القيس لما رأوا النبى صلى الله عليه وآله وسلم رموا بأنفسهم من فوق دوابهم وجاءوا إليه وقبلوا يده ورجله صلى الله عليه وآله وسلم). فهل أقرهم صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك أم نهاهم عنه؟
ج- نعم أقرهم على ذلك فيكوت تقبيل يده صلى الله عليه وآله وسلم ورجله سنة، ويجوز أن نفعله مع من يستحق إما احتراما له وإما تبركا به.
وممن ذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلانى رحمه الله عند شرحه لحديث (رضينا بالله ربا). قال: وفى رواية: ثم رقى عمر المنبر وقبل يده ورجله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال ابن حجر: يؤخذ من هذا جواز تقبيل اليد والرجل. وقال البخارى رحمه الله فى آخر كتابه الأدب المفرد فى كتاب السلام: (باب تقبيل اليد) وذكر الأحاديث. و(باب تقبيل الرجل) وذكر الأحاديث. قال: ولما قرأت فى الأدب المفرد هذه الأحاديث سألت أحد علماء المغاربة قلت له: ما هذه الأحاديث؟ قال لى: أتسألنى عن أحاديث رواها البخارى!؟
وقد ألف أحد المغاربة كتاباً صغيراً سماه (إيقاظ النبيل بأدلة التقبيل) فراجعه إن شئت.
وذكر ابن القيم رحمه الله فى شرحه لكتاب عوارف المعارف للسهروردى رحمه الله أن زيدا بن ثابت الأنصارى رضى الله عنه صلى على جنازة، فلما ركب بغلته جاء ابن عباس رضى الله عنهما وأخذ بركابه فقال زيد : مهلا يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل مع علمائنا، فأخذ زيد بيد ابن عباس فقبلها ثم قال : هكذا أمرنا أن نفعل مع أهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. انتهى المقصود نقله من كلام الشيخ صالح الجعفرى رحمه الله.
ثم إن مشايخ طريقنا الشيخ أبو الحسن الشاذلى والشيخ أبو العباس المرسى والشيخ سلامة الراضى يقولون بالمصافحة، وقد قال عنها الشيخ أبو الحسن أنها بالشم أو بالتقبيل.
وفى صحيح البخارى وغيره عن أنس رضى الله عنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم فقبله وشمه".
والتقبيل دلالة على الاحترام أو التقدير، فكل من تقدره أو تحبه لا مؤاخذة فى تقبيل يده كتقبيل يد الأب والأم والشيخ المرشد، وهى اشارة الى تلقى العطاء من صاحب عطاء استمد استحقاق تكريمه من الشريعة كالأبوين أو من خلع الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه عليه خلعة المشيخة بعد كثرة مجاهداته وصدق توجهه وترقيه فى مدارج الكمال حتى أنه يتصف بسعة الروحانية لتشمل جميع مريديه ويكون معهم نفساً بنفس فذلك الشيخ يكون ممداً لتلاميذه صاحب عطاء عليهم حيث أنه محل وورود الفيض الإلهى لجميع تلامذته فمن كان كذلك صح لمريده تقبيل يده، والأولى به أن يصافح بالتبادل وفقاً لأدب الطريق وإلى ذلك يشير سيدى سلامة الراضى رضى الله عنه فى مواعظه فيقول:
"وقد قال أشياخ الطريق: لابد للشيخ من سياسة الملوك، وطب الحكماء، ودين الأنبياء، ومن لم تكن عنده هذه الخصال فليس بشيخ، بل كان ما يفسده أكثر مما يصلحه". ويشرح سيدى سلامة ما يجب على الشيخ فى حق مريديه" إلى أن يقول رضى الله عنه:
"وإذا سار الشيخ مع إخوانه فى تربية نفوسهم بحيث يصرف همه كله فى ذلك كمن له تجارة يتفكر فيها كل أوقاته بحيث لو غفل عنها لكان حظه خسران رأس ماله. أو كصاحب سفينة ســائرة فى البحر إذا غفل عنها الملاح لآل أمرها إلى الغرق. وهكذا كان الأشياخ مع تلامذتهم رضى الله عنهم، فإذا رأيت الشيخ يترك تلميذه يروح ويغدو فى هوى نفسه ولا يحاسبها على ما يقع منها، ولا يحاسبها على ما كمن فيها، ولا يقيم عليها موازين الطريق، ولا يطالبهم بحقوقها فإنه شيخ ضال مضل لا يعبأ الله به ولا بتلامذته ولو تظاهر بالصلاح، ولو حفظ العلوم ونطق بالحكم ولازم الزوايا. فإن الطريق قد بنيت على موت النفوس!".
ومن ختام كلام سيدى سلامة السابق نستنتج أحد أسرار المصافحة فقد قال رضى الله عنه :
" فإن الطريق قد بنيت على موت النفوس!".
والمصافحة علاج للكبر، والكبر أكبر القواطع فى الطريق ، ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى ذلك فيما ورد عنه أنه قال: "لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثفال ذرة من كبر".
وألا ترى أن الكبر هو الذى جرأ إبليس على المخالفة ورد الأمر الإلهى فاستحق اللعنة والطرد حين قال: "أنا خير منه ".
ثم إن الأرواح لواقح ، وما خلا مؤمن من بركة، وما خلا مؤمن من نور، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ، وقال تعالى:
﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾– الآية ، وقال تعالى:
﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾- الآية .
فعند المصافحة يسرى النور والبركة من كل من المتصافحين إلى الآخر، وكلاهما قد أودع الله فيه من الأسرار ما يتغاير به عن غيره، فالمصافحة نقل للأنوار الموجودة من واحد إلى واحد.
ولما أدرك بعض العلماء ذلك خشى من أن يترك يده للناس يقبلونها الواحد تلو الآخر دون أن يتم المصافحة منه لهم، خشية من أن تسرى أنواره إلى المقبلين، ويحمل هو همومهم وأحمالهم فقال:
أنا لا أرضى بتقبيل يدٍ .. قطعها خير من تلك القبل
ونبه سيدى أبو الحسن لخطورة ذلك قبل الكمال، حيث الكامل لا تزال تتوارد عليه الأنوار والإمدادات فقال رضى الله عنه:
"من أقبل على الخلق الاقبال الكلى قبل بلوغ درجات الكمال سقط من عين الله تعالى، فاحذروا هذا الداء العظيم فقد تعلق به خلق كثير وقنعوا بالشهرة وتقبيل اليد، فاعتصموا بالله يهديكم إلى الطريق المستقيم".
ثم من أسرار المصافحة الصادقة إزالة الضغائن التى قد يحملها الفقير لأخيه، فالمصافحة اشارة للصفاء والأخوة وهما صفة الصوفية.
وفى موطأ الإمام مالك رحمه الله عن عطاء بن عبد الله الخراسانى قال: "قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء" وأورده النووى فى الأذكار وقال: هذا حديث مرسل.
هذه بعض لطائف المصافحة نبهنا بها على مثلها والله ولى التوفيق.