يا فقيه
عدد الرسائل : 26 تاريخ التسجيل : 05/11/2008
| موضوع: تدبر في قوله تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا الأحد فبراير 10, 2013 10:39 am | |
| . الله بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الولي الشهيد الفعال لما يريد والصلاة والسلام على النبي الحبيب والآل والصحب بهم قربنا يا الله إليك أيما تقريب أما بعد.. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. ثم أما بعد.. فقد خطرت للفقير خاطرة في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، ونحن بحمد الله نعتقد ما ذكره فيها السادة المفسرون ولكن أحببنا أن نرى بعض المعاني التي ترد من تدبر القرآن، وقبل أن نخط ما ورد إلينا نحب أن نتجول قليلاً في رياض معاني هذه الآية من كلام الأكابر ونورد عليكم بعض الفوائد مما وجدنا ثم بعد ذلك نورد عليكم الخاطر الذي مر بالفقير {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه في الفتوحات المكية : قال الله تعالى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] رأيت سائلاً يسأل شخصاً بوجه الله أو بحرمة الله عندك أعطني شيئاً ومعي عبد صالح يقال له مدوّر من أهل أسبجة ففتح الرجل صرة فيها قطع فضة صغار وكبار فأخذ يطلب على أصغر ما فيها من القطع. قال لي العبد الصالح: أتدري على ما يطلب؟ قلت له: قُل. قال لي: على قيمته عند الله وقدره فكلما أخرج قطعة كبيرة يقول بلسان الحال ما نساوي مثل هذه عند الله فأخرج أصغر ما وجد فأعطاه إياها. إلا أن الله وصف نفسه بالغيرة وعلم من أكثر عباده أنهم يهبون جزيل المال وأنفسه في هوى نفوسهم وأغراضهم فإذا أعطى أكثرهم لله أعطى كسرة باردة وفلساً وثوباً خَلِقاً وأمثال هذا. هذا هو الكثير والأغلب فإذا كان يوم القيامة وأحضر الله ما أعطى العبد من أجله بينه وبين عبده حيث لا يراه أحد فأحضر ما أعطى لغير الله فيقول له: يا عبدي أليست هذه نعمتي التي أنعمت بها عليك أين ما أعطيت لمن سألك بوجهي؟ فيعين ذلك الشيء التافه الحقير ويقول له: فأين ما أعطيت لهوى نفسك؟ فيعين جزيل المال من ماله فيقول: أما استحييت مني أن تقابلني بمثل هذا وأنت تعلم أنك ستقف بين يدي وسأقررك على ما كان منك؟ فما أعظمها من خجلة ثم يقول له: قد غفرت لك بدعوة ذلك السائل لفرحه بما أعطيته لكني قد ربيتها لك وقد محقت ما أعطيته لهوى نفسك فإنّ صَدَّقتك أخذتُها وربيتُها لك. فيحضرها أمام الإشهاد وقد رجع الفلس أعظم من جبل أحد وما أعطى لغير الله قد عاد {هَبَاءً مَنْثُورًا}. قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]. فالعارفون بالله صغيرهم كبير، وكبيرهم لا أعظم منه، فإنهم لا يعطون لله إلا أنفس ما عندهم وأحقر ما عندهم، فكلهم لله وكل ما عندهم لله، العبد وما يملكه لسيده، فيعطون بيد الله ويشاهدون يد الله هي الآخذة. وهم مبرؤون في العطاء والأخذ مع غاية الاستقامة والمشي على سنن الهدى والأدب المشروع. فيكونون عند الحق بمنزلة ما هو الحق في قلوبهم. يعظمون شعائر الله وحرمات الله فيعظمهم الله يوم يقوم الأشهاد بمرأى منهم ويقيم الآخرين على مراتبهم فذلك يوم التغابن فيقول فاعل الشر: يا ليتني فعلت خيراً. ويقول فاعل الخير: ليتني زدت. والعارف لا يقول شيئاً فإنه ما تغير عليه حال كما كان في الدنيا كذلك هو في الآخرة أعني من شهوده ربه وتبرّيه من الملك والتصرّف فيه فلم يقم له عمل مضاف إليه يتحسر على ترك الزيادة منه وبذل الوسع فيه. وما كان منهم من زلل مقدر وقع منهم بحكم التقدير فإن الله يتوب عليهم فيه بتبديله على قدر الزلة سواء لا يزيد ولا ينقص. فإن العارف في كل نفس تائب إلى الله في جميع أفعاله الصادرة منه توبة شرعية وتوبة حقيقية: فالتوبة المشروعة هي التوبة من المخالفات. والتوبة الحقيقية هي التبري من الحول والقوّة بحول الله وقوته. فلم يزل العارف واقفاً بين التوبتين في الحياة الدنيا في دار التكليف. فإن كان له اطلاع إلهي على أنه قد قيل له افعل ما شئت فقد غفرت لك فإن ذلك لا يخرجه عن تبريه ولم تبق له بعد هذا التعريف توبة مشروعة لأنه بين مباح وندب وفرض لا حظ له في مكروه ولا محظور لأن الشرع قد أزال عنه هذا الحكم في الدار الدنيا ورد ذلك في الخبر الصحيح عن الله في العموم وفي أهل بدر في الخصوص لكنه في أهل بدر على الترجي وفي وقوعه في العموم واقع بلا شك. فمن أطلعه الله عليه من نفسه بأنه من تلك الطائفة فذلك بشرى من الله في الحياة الدنيا. قال الله تعالى: "{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ...} [يونس: 63، 64]. هذا حال المؤمن المتقي فكيف بحال العارف النقي الذي ما لبس ثوب زور وما زال نوراً في نور. فمن حافظ على آداب الشريعة وأعطى الطبيعة ما أوجب الله عليه من حقها وما تعدى بها منزلتها كان من العارفين الأدباء وأصحاب السرّ الأمناء {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ..} [الأحزاب: 4]. انتهى كلام الشيخ الأكبر نسأل الله أن يجعل لنا الحظ الوافر من هذا ونسأله الهداية والسداد. وها هو الإمام القشيري يحيرنا فيقول في تفسير قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] هذه آفة الكفار؛ ضاع سعيُهم وخاب جُهْدُهم ، وضاع عمرُهم وخَسِرَتْ صفقتُهم وانقطع رجاؤهم { وَبَدَا لَهُمُ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } [ الزمر : 47 ] ، { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً } [ الكهف : 104 ] . وأما أصحاب الحقائق وأرباب التوحيد فيلوح لقلوبهم من سماع هذه الآية ما يحصل به كمال رَوْحِهم ، وتتأدَّى إلى قلوبِهم من الراحات ما يضيق عن وصفه شرحهُم ، ويتقاصر عن ثنائه نُطْقُهم ، حيث يسمعون قوله : { وَقَدِمْنَا إِلَى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } ولقد ظهرت قيمة أعمالهم حيث قال الحقُّ لأجله { وَقَّدِمْنَا إلى ... } فَهُم إذا سمعوا وَجَبَ لهم من الأريحية ما يشغلهم عن الاهتمام لقوله : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } ويقولون : يا ليت لنا أعمال أهل الدارين ثم لا تُقْبَلُ منها ذرةٌ وهو يقول بسببها : { وَقَدِمْنَآ إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ... } ! لأنهم إذا تخلصوا من مواضع الخلل وموجبات الخجل من أعمالهم عدُّواً ذلك من أجلِّ ماينالون من الإحسان إليهم ، وفي معناه أنشدوا : سأرجع من حجِّ عامِيَ مُخْجِلاً ... لأنَّ الذي قد كان لا يُتَقَبَّلُ انتهى موضع النقل من كلام الإمام القشيري رضي الله عنه، وقد احتار الفقير في هذا الكلام ، ولكن الذي فهمته – على ضعيف قدري وقلة فهمي – أن أصحاب الحقائق وأرباب التوحيد فرحوا بقوله تعالى "وقدمنا إلى" من قدومه تعالى ولم يلتفتوا إلى جعل الأعمال هباءً منثوراً فإنهم لم يعولوا عليها ولم يلتفتوا إليها بل عولوا عليه سبحانه ولم يلتفتوا إلى غيره قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، ففضل الله ورحمته خير مما جمعوا من الأعمال. وكون أعمالهم تعود هباءً منثوراً في حقهم إنما هو بنقلهم من دائرة العدل إلى دائرة الفضل والإحسان - فضل الله وإحسانه - ففرحوا به تعالى . والله تعالى أعلى وأعلم.
وفي تفسير حقي النازلي: قال سهل اثبتوا لانفسهم اعمالا فاعتمدوا عليها فلما بلغوا الى المشهد الاعلى رأوها هباء منثورا فمن اعتمد على الفضل نجا ومن اعتمد على افعاله بدا له منها الهلاك. وفى عرائس البقلى رحمه الله: هذه الآية خير من الله للذين فرحوا بما وجدوا فى البدايات مما يغترّ به المغترون وقاموا به وظنوا ان لا مقام فوق مقامهم فلما رأوا بخلاف ظنونهم ما لأهل معارفه وأحبابه وعشاقه من درجات المعرفة وحقائق التوحيد ولطائف المكاشفات وغرائب المشاهدات ماتوا حسرة . فانظر إلى هذه المعانى الشريفة فى هذا المقام فان كلا منها يحتمله الكلام بل وأزيد منها على ما لا يخفى على ذوى الافهام واجتهد فى أن يبدو لك من الثواب ما لم يكن يخطر ببالك أن تكون مثابا به وذلك بالاخلاص والفناء التام حتى يكون الله عندك عوضا عن كل شئ. انتهى من تفسير حقي رحمه الله ورضي الله عنه. وفي البحر المديد لإبن عجيبة في تفسير قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون} [البقرة: 266]، وبعد أن استوفى ابن عجيبة تفسير العبارة حقها قال: البحر المديد (1/ 226، بترقيم الشاملة آليا) الإشارة : في الآية تخويف للمريد أن يرجع إلى عوائده ، ويلتفت إلى عوالم حسه ، فيشتغل بالدنيا بعد أن استشرف على جنة المعارف ، تجري على قلبه أنهار العلوم ، فينقُضُ العهد مع شيخه ، أو يسيء الأدب معه ، ولم يتب حتى تيبس أشجار معارفه ، وتلعب به ريح الهوى ، فيحترق قلبه بنار الشهوات . قال البيضاوي : وأشبههم به من جال سره في عالم الملكوت ، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت ، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور ، والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثوراً . اهـ . انتهى من البحر المديد أعاذنا الله من ذلك وتاب علينا وثبتنا وأيدنا وسددنا وهدانا ولطف بنا ووفقنا وختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين. قال أبو طالب المكي رضي الله عنه في قوت القلوب: وللتائب حال من أول المحبة، وللتواب مقام من حقيقة الحبّ، وللناس في التوبة مقامات حسب كونهم في الهوى طبقات، وهم في الحب درجات نحو مشاهدتهم لمحاسن الصفات، فتجلّى لكل وجه بمعنى، حسن وجهه هذا في القلوب عن محاسن الإيمان، وفي الآخرة على معاني محاسن الوجوه في العيان، فتحكم عليهم المشيئة منه لهم بما يوجدهم به منه على معاني ما أوجدهم منه به اليوم، فسبحان من هذه قدرته عن إرادته وسع كل شيء رحمة وعلماً، ويلزم كل عبد من المجاهدة على قدر ما ابتلى به من الهوى، ويثبت له من المحبة بقدر ما صح له من التوبة، ويسقط عنه من المجاهدة بقوة ما يكشف له من المشاهدة، فيحمل الإشهاد عنه آلام الجهاد، فيكون العبد في البلاء محمولاً، ويكون يقينه بالشهادة واليقين موصولاً، وهذا من سوابغ العوافي وتمام من النعماء، وهؤلاء الذين أنعم اللّه عليهم من النّبيين والصدِّيقين والشهداء وهم الذين جاء الخبر فيهم. "إنّ لله عباداً ضنائن من خلقه، يغذوهم برحمته ويجعلهم في ظل عافيته، يضن بهم عن القتل والبلاء ويحييهم في عافية، ويدخلهم الجنة في عافية أولئك الذين تمرّ عليهم الفتن كقطع الليل المظلم وهم منها في عافية"، فالأفضل بعد هذا لكلّ عبد معرفته بعلم حاله، ووقوفه على حده ولزوم الصدق في مقامه، وترك التكلّف والدعوي في جميع سكونه وحركته، فإنه هذا أبلغ فيما يريد، وأوصل في طلب ما يرجو، فإنّ علم العلماء لا يغني عنه من علمه بنفسه شيئاً لا يسأل عن علومهم كما لا يسألون عن علمه، وهذا طريق رأس ماله الصدق، وزاده الصبر وقوته التقوى، فمن عدم الصدق لم يربح، ومن لم يتزود الصبر انقطع، ومن لم يقتت التقوى هلك، فذرة من صدق أنفع من مثقال عمل، وذرة من صبر خير من مثقال من عمل، وذرة من تقوى أنفع من مثقال إيمان، فإنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً، ويعطي اللّه تعالى العبد بأداء الفرائض واجتناب المحارم مقاماً من مقامات اليقين، يرفع به إلى عليين، وربما أعطاه بهما مثل ثواب الأبدال بعد أن يريد بالفعل والترك وجه اللّه تعالى وحده، وإن لم يسلك به طريق الأبدال قط ولم يعرف منهم أحداً أبداً، ومن نقله مولاه باليقين الذي به تولاه لم يخف عليه التنقيل، لأن النقل يضطره إلى التنقل في الأحوال، والمشاهدة تحكم عليه بالأفعال، وربما بلغ اللّه تعالى العبد بحسن الظن به، وقوة الأمل والطمع فيه جميع ما ذكرناه، بعد أن يكون حسن اليقين، وقد يعطيه مقام الصدِيقين بخلق من أخلاقه إذا خلقه به، وربّما بلغه منازل الشهداء بشيء واحد يتركه له، أو شيء يؤثره به لأنه غفور شكور، وأضرّ شيء على العبد قلة معرفته به، فلربما كان العبد على تسع كبائر فيترك العاشرة لوجه اللّه تعالى، فتكون تلك الخصلة ذرة إلى جنب تسعة أجبل، فينظر اللّه تعالى إليه بوجهه لوجهه الذي تركه له نظرة، فتمحو تلك النظرة الجبال التسعة فتصبر هباءً منثوراً، وربما حسن اللّه تعالى وصفاً واحداً من العبد يصفه به فيحبط عنه مائة وصف قبيح يصفه الناس به، فتدبروا، فلا ييأس عبد من فضل مولاه ولا يقطعن من حبله رجاه بعد إذ عرفه، فإن السيد كريم رحيم، ولا ينقطعن عبد عن بابه وأن يقطع بخلافه ولا يبعدن عن فنائه وإن بعد بأوصافه، ولا يستوحش من التقرّب إليه بما يحب بعد ما توحش، تفحش لديه بما يكره، فهكذا يحب اللّه تعالى من عباده فتبينوا، ونحو هذا يحبّ اللّه تعالى منهم أن يعرفوا فيفعلوا بعد المعرفة، فإنّ المعروف مفرط الكرم واسع الرحمة فاضل الفضل، فإن أعطي المعرفة لم يمنع شيئاً ولا يضرّ ما منع وإن منع المعرفة لم يعط شيئاً ولم ينفع منه ما أعطي، وقد تلتبس المحاب فتدخل محبة النعم في محبة المنعم، وتدخل محبة النفس على محبة خالق، ويشتبه ذلك عند عموم المحبين ممن لم يكشف له عين اليقين، فيكون العبد محبَّا للنعم، وهو يظن بوهمه أنه محب للمنعم، ويكون محبّاً لنفسه ويحسب أنه محبّ لمولاه، وعلامة ذلك سكونه إلى الأشياء وفرحه بالموجودات، ووجود راحته ولذته في هواه، فربما اختار اللّه تعالى أن يكشف له حاله قبل موته، وربما ستر عليه حاله ولم يفضحه حتى يلقاه، فيثيبه ثواب مثله وجزاءه، وليس يظهر فرقان هذا إلا في قلب موقن مراد بنور ثاقب، وعلم نافذ ويقين صاف من عين التوحيد وشاهد القيومية لأنه من باب مشاهدة الصفات الغيبية ومشاهدة الأفعال الملكوتية، وهو الفرقان الذي وعده اللّه تعالى المتقين من المؤمنين فقال:(يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إنْ تَتَّقُوا اللّه يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً) الأنفال: 29، قيل: نوراً تفرقون به بين الشبهات وهو المخرج الذي ضمنه اللّه تعالى لأهل التقوى، والمنهج في قوله تعالى:(وَمنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الطلاق:2، قيل: من كل أمر ضاق على الناس به فتفصيل معاني التوحيد من شواهد الناظرين أضيق الضيق، وشهادة الجمع في التفرقة والبقاء في الفناء أخفى، وشرح غريب عن الأسماع ينكر أكثره أكثر من سمعه، غير أنّ من له نصيب منه يشهد ما رمزناه، فيكشف له به ما غطيناه، إلا أنه استولى على القلب أحد وجهين، فالخصوص أحبوه من طريق مشاهدة الصفات، فحب هؤلاء بقلب ووجد لا يتغير أبداً، وهم مثبتون فيه إلى لقاء الحبيب، وهؤلاء عبدوه على التعظيم والمحبة والإجلال والكبرياء، وفي هؤلاء المقرّبون والمحبوبون، والخائفون والعاملون والمتوكلون والراضون، وهو المقام الأعلى وهم الأعلون عنده في المنتهى. انتهى المقصود نقله من قوت القلوب.
وفي البحر المديد في تفسير آيات من سورة الواقعة بعد أن استوفى العبارة قال ابن عجيبة رضي الله عنه: الإشارة : أفرأيتم أيها المشايخ ما تُمْنون من نُطف الإرادة في قلوب المريدين ، أأنتم تخلقونه في قلوبهم حتى تنبت فيها بذرة الإرادة ، وتهيج شجرة المحبة ، فتُثمر بالمعرفة ، أم نحن الخالقون؟ نحن قدّرنا بينكم الموت ، فمنكم مَن يموت الموت الحسي أو المعنوي قبل الوصول ، ومنكم مَن يموت بعد الوصول ، والموت المعنوي : هو الرجوع عن السير ، ولا يكون إلاَّ قبل الوصول ، وما نحن بمسبوقين على أن نُبدل أمثالكم ، ونُغيّر صفاتكم ، فإنّ القلوب بيد الله ، وننشئكم فيما لا تعلمون من الجهل والبُعد . ولقد علمتم النشأة الأولى ، التي كنتم عليها حال الغفلة والبطالة قبل ملاقاة الرجال ، أفلا تذكرون فتشكرون على نعمة اليقظة والمعرفة . أفرأيتم ما تحرثون من الأعمال والأحوال والمجاهدات والرياضات ، أأنتم تزرعونه ، أي : تُنبتونه حتى يُقبل منكم ، وتجنون ثماره ، أم نحن الزارعون؟ لو نشاء لأبطلناه ورددناه فنجعله هباءً منثوراً ، فظلتم تندمون على ما فات منكم من المشاق ، حيث لم تجنوا ثمرتها ، تقولون : إنّا لمغرمون ، حيث افتقرنا ودفعنا أموالنا في حال الجذبة الأولى ، بل نحن محرمون من ثمار مجاهدتنا وطاعتنا ، أفرأيتم الماء الذي تشربون ، وهو ماء الحياة الذي تحيا به القلوب ، تشربونه بوسائط المشايخ ، يزقّه الشيخُ لروح المريد ، كما يزق الطيرُ أفراخه ، وبذلك تحيا روحه ، فتغيب عن عوالم حسها ، أأنتم أنزلتموه من سحاب الهداية والعناية ، أم نحن المنزِلون؟ لو نشاء جعلناه أُجاجاً فَتَمجه الروحُ بعد شربها ، أو تمتنع من شربه ، فالأول للداخلين إذا لم تسعفهم رياح المقادير ، فتنكسر سفينة سيرهم بعد الركوب ، والثاني للطالبين المحرومين من أرزاق المعرفة . فلولا تشكرون هذه النعم ، حيث وفقكم لشرب الخمر ، ودمتم حتى سكرتم وصحوتم ، وحييت بها أرواحكم وأشباحكم . أفرأيتم النار نار الشهوة التي تُورون؛ تقدحونها في نفوسكم ، أأنتم أنشأتم شجرتها ، وهي النفس الطبيعية ، أم نحن المنشئون؟ نحن جعلناها تذكرة ، أي : إيقاظاً توقظ صاحبها ليتلجئ إلى مولاه ، وفي الحِكَم : « وحرَّك عليك النفس ليُديم إقبالك عليه » : وجعلناها متاعاً للسائرين؛ إذ بجهادها يتحقق سيرهم ، وبتصفيتها يتحقق كمالهم ، وبفنائها يتحقق وصولهم ، وكان شيخ شيخنا حين يشتكي له أحد له بنفسه ، يقول : أما أنا فجزاها علي خيراً ، ما ربحت إلاّ منها . انتهى من البحر المديد.
وأما الخاطر الذي جال بفكر الفقير فهو عن سائر يسير إلى الله حتى إذا كان بمفازة من مفاوز الطريق، احتوشته الشياطين داخلين إليه من مداخل النفس وأرادوا إهلاكه وقالوا قد فزنا به، حتى إذا ما تيقنوا أنه لا قيام له من زلته ولا نهوض له من كبوته، جاءت الألطاف الإلهية فانتشلته من براثنهم كأن لم يقع في ايديهم أصلاً. وأما ما كادوه به وما أحاطوه به من مكرهم وتدبيرهم وأعمالهم فيأتي عليه قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] فيعود السائر أقوى بالله وأعرف به قد تعرف إليه من باب عزته وحكمته فصار إليه أقرب {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله لا رب سواه ولا ناصر إلا إياه {.. وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126]، {.. وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].
| |
|
فراج يعقوب
عدد الرسائل : 44 تاريخ التسجيل : 25/11/2008
| موضوع: رد: تدبر في قوله تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا السبت فبراير 16, 2013 3:43 pm | |
| نقل مفيد جزاك الله خيرا وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم | |
|